بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
وبعد:
لقد عرفنا من القول بأن سياسة علي عليه السلام امتداد لسياسة النبي صلى الله عليه وآله، وعلى ذلك الأساس، فمن المرجح أن الركيزة الأساسية في فكر علي عليه السلام السياسي هي خضوع السلطة المدنية للسلطة الدينية خضوعاً مطلقاً، لذلك ارتأى ان في محاربته الخارجين على سلطته ـ بعد ان ولي الخلافة ـ واجباً دينياً، وان المهادنة مع أولئك كفر بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله استناداً لقوله «وقد قلبت هذا الأمر بطنه وظهره حتى منعني النوم، فما وجدتني يسعني إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله فكانت معالجة القتال أهون علي من معالجة العقاب، وموتات الدنيا أهون علي من موتات الآخرة»[1] فعلي عليه السلام يرى من واجبه كإمام للأمة أن لا يتهاون ولا يهادن على حساب ما شرعه الإسلام، لأن غاية السلطة تحقيق العدالة في ظل شريعة السماء.
ومن منطلق إسلامي بحت بنى أيضاً سياسته المالية، فلا محاباة ولا مفاضلة بين طبقات المجتمع في توزيعه لأن «المال مال الله»[2] وقد عايش هو جميع الصحابة تصرف الرسول صلى الله عليه وآله في المال، فطلحة والزبير وغيرهما من المسلمين ليس لهم في المال إلا بقدر ما شره الإسلام لكل فرد لذلك فإنه يقول لطلحة والزبير لما عتبا عليه مساواتهم بغيرهم من المسلمين «أما ما ذكرتما من أمر الأسوة، فإن ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأي، ولا وليته هوى مني، بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله قد فرغ منه، فلم احتج إليكما فيما فرغ الله من قسمه وأمضى فيه حكمه، فليس لكما والله عندي ولا لغيركما في هذا عتبى»[3]. ثم إن ممارسته للسلطة تقوم على السياسة الدينية نستشف ذلك مما قاله لطلحة والزبير حين احتجا على سياسته في تسيير الأمور دون مشورة منهما «لما افضت الي نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به، فاتبعه وما أستن النبي فأقمته، فلم احتج إلى رأيكما ولا رأي غيركما»[4]. فأسلوب الحكم في فكر علي عليه السلام لا يقاس نجاحه برضى العامة وإنما يقاس بمدى مطابقته لما جاء في الشريعة الإسلامية، فوجهات النظر المختلفة حول التطبيق الصحيح لأساليب الحكم والمعاملة هو ما حدا بعلي إلى القول لمن بايعه «ليس أمري وأمركم واحداً، أني أريدكم إلى الله وأنتم تريدونني لأنفسكم»[5]. فالقيادة في فكر علي عليه السلام مبنية في الأساس على الدين، ومهمة الخليفة أو الإمام بتطبيق الشرع على جميع شؤون الحياة، لذلك فإن الطاعة التي يتوخاها في جمهور المسلمين ليست لشخصه، وانما هي لمصلحة المطيعين، لأن قيادته لهم قيادة هداية وصلاح، وفي هذا الصدد يقول لأهل البصرة «فإن أطعتموني فإني حاملكم ـ إن شاء الله على طريق الجنة، وان كان ذا مشقة شديدة ومذاقة مريرة...»[6]، فالقيادة الحقة هي التي تؤدي إلى الجنة وهي غاية الإسلام من الحكم كما يراها عليه السلام مما يؤكد الارتباط الوشيج بين الدين والدولة في النظام الإسلامي «لان الإسلام دين وليس قانوناً أخلاقياً ولا مذهباً فلسفياً»[7]، وذلك على أساس المفهوم الواسع لمعنى الدين في شموليته على اصول الشرائع وفروعها بما تنطوي عليه من اعتقادات وعبادات، وممارسات متعلقة بجميع شؤون الدين والدنيا فوصف الدين على أنه:
أـ ممارسة شعائر وطقوس معينة.
ب ـ الاعتقاد في قيمة مطلقة لا تعدلها أية قيمة.
جـ ـ ارتباط الفرد بقوة روحية عليا[8].
يقصره على العبادات والطقوس وهو ما يتنافى وشمولية الإسلام الذي وصفه عليه السلام بأنه «التسليم والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل»[9]المطلق اللامحدود بزمان أو مكان لبناء خير الإنسانية «لان لفظ العمل يشمل الاعتقاد والنطق باللسان وحركات الاركان... كل ذلك عمل وفعل»[10] وهذا يبطل الزعم بعدم وجود فرق بين الإسلام والمسيحية، من حيث الحكم والسياسة على اعتبار «ان الإسلام دين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويوجه إلى الخير ويبعد عن الشر... ولا تزيد المسيحية على هذا ولا تنقص منه، ولأمر ما قال عيسى عليه السلام للذين جادلوه من بني اسرائيل: اعطوا ما لقيصر وما لله لله»[11]. لأن مفهوم «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» كمصطلح ديني في الإسلام لا يمكن افراغه اطلاقا من مضمونه الثوري الذي بثه الإسلام فيه، فتصوره على انه مجرد نصح وارشاد وتبشير يبعده عن مفهومه السياسي كمبدأ من مبادئ الثورة على الظلم وهدم الفساد، وقد منحه المسلمون في كثير من العصور ذلك البعد السياسي الذي أراده الإسلام له، فمما يؤثر عن الحسين بن علي عليه السلام في خطبته لأهل الكوفة عند خروجه على يزيد قوله «أيها الناس، ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: من رأى سلطاناً جائراً لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عياد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله ان يدخله مدخله، الا وان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، واظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء واحلوا حرام الله، وحرموا حلاله وأنا أحق من غيَّر»[12].[13].
الهوامش:
[1] خطب 54، وجاء مثله أيضاً في الخطبة رقم 43.
[2] خطب 126.
[3] خطب 199، والعتبى: العتاب واللوم.
[4] خطب199.
[5] خطب 136.
[6] خطب 156.
[7] عبد المجيد النجار: العقل والسلوك في البيئة الإسلامية ص 23.
[8] خياط: معجم المصطلحات العلمية والفنية، ص 247.
[9] حكم 122.
[10] ابن أبي الحديد، السابق 18/ 314.
[11] طه حسين: الفتنة الكبرى ـ عثمان ـ ص 27.
[12] تاريخ الطبري 5/403.
[13] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص147 – 150.