بين الحاكم والرعية، عهد للأشتر ومن بلغ.....(2)

مقالات وبحوث

بين الحاكم والرعية، عهد للأشتر ومن بلغ.....(2)

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 09-12-2019

خُطَى الخُزَاعي
تقدَّم فيما سبق بيان مدى اهتمام أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) بمقاطع من عهده الشريف لمالك الأشتر (رضوان الله عليه)، ومن يقع في دائرة القصد من متصدٍ ومسؤول بالعدل واتخاذه أساسًا للحكم، وركَّز على بعض تطبيقات العدل المؤدية إلى حيث ازدهار الحكم، كتقويم الأشخاص تقويمًا متناسبًا والمنجز بعيدًا عن سائر الاعتبارات، وجعل الكفاءة مناطًا في اختيار ذوي المسوؤليات مع تقديم ذوي الورع والصدق منهم على غيرهم، وغيرها من مصاديق العدل التطبيقية.
واستكمالًا لما سبق، أكَّد أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) على مسألة غاية في الأثر والخطورة، وهي مسألة تفعيل مراقبة المسؤول ومتابعة عمله من لدن الحاكم، معطيًا (عليه السلام) فائدة ذلك؛ إذ متى ما استشعر المسؤول أنَّه محاط بدائرة مراقبة محكمة فإنَّ ذلك سيشجعه ويحثه على حفظ أمانة المسؤولية، ورعاية مصالح الرعية، وبيّن أنَّ مهمة المراقبة إنَّما تكون ببناء جهاز نزيه من ذوي الصدق والوفاء موثوق بهم من لدن الحاكم، ينقلون الأخبار بلا تعدٍ على الواقع أو تزييف للحقائق فقال (صلوات الله وسلامه عليه): ((ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالوَفَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الاْمَانَةِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ...))، ثم تأتي النوبة إلى مسألة تفعيل العقوبة لخصوص المسؤول المقصِّر في أداء مهمته بعد اثبات التقصير في حقه من لدن جهاز مراقبة الحاكم، فيكون ذلك كافيًا في الإدانة وموجبًا للعقوبة المشدَّدة التي ستطاله بدنيًا بحبس ونحوه، وماديًا بتغريمه ما استحوذ عليه من أموال الدولة، ومعنويًا بحجب الثقة عنه وإذلاله ووسمه بالخيانة، مع جعل عار ما اقترفه ملتصقًا به فيسقط بذلك موقعه الاجتماعي الذي لحق به جراء تصديه للمسؤولية فقال (صلوات الله وسلامه عليه):((فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَة اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ، اكْتَفَيْتَ بِذلِكَ شَاهِداً، فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ، وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ، وَوَسَمْتَهُ بِالْخِيانَةِ، وَقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ))، فيتجلى من شدة العقوبة التي ضمَّنها الأمير (صلوات الله وسلامه عليه) في هذا العهد المبارك وتنوعها مدى حرص الدين على رعاية أمور الرعية وعدم التهاون بأداء المسؤولية تجاه الناس تحت أي مسمى، ومتى ما عرف المسؤول حجم العقوبة واستيقن من تفعيلها سينظبط في أداء مهمته وسيبتعد عن التقصير ما استطاع درأً من الوقوع تحت طائلتها، ثم ندرك بعد ذلك مدى استشراء هذا الكم المخيف من فساد المسؤول، واستهانته بحقوق من استؤمن على رعاية مصالحهم، بعد أن نرى أنَّ مثل هكذا عقوبات انتهت صلاحياتها حبرًا على ورق بلا تفعيل، فراح المسؤول يتمادى في غيه وفساده بلا رادع من ضمير أو عقوبة من قانون، فالأمير (عليه السلام) وإن جعل اختيار المسؤول ابتداءً على أساس الكفاءة والورع، لم يهمل جانب العقوبة في حال تقصير من أختيروا على هذا الأساس.
ثم قال (عليه السلام): ((وَتفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صلاَحِهِ وَصلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلاَ صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ، لاَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ، وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الاْرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لاِنَّ ذلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بَالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً، فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلاً أَوْ عِلَّةً، أَوِ انْقِطَاعَ شِرْب أَوْ بَالَّة، أَوْ إِحَالَةَ أَرْض اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ، أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ، خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِما تَرْجُو أَنْ يصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ، وَلاَ يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَؤُونَةَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلادِكَ، وَتَزْيِينِ وِلاَيَتِكَ، مَعَ اسْتِجْلاَبِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ، وَتَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ، بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ لَهُمْ، وَالثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ فِي رِفْقِكَ بِهِمْ، فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الاْمُورِ مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ، فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الاْرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا، إِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لاشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَى الْجَمْعِ، وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ، وَقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ)).
بهذا المقطع من عهده وجَّه (صلوات الله عليه) الحاكم والمسؤول إلى مسألة مهمة تعدُّ قوام ميزانية الدولة المالية وعليها يتوقف صلاح العباد، وعمارة البلاد، ألا وهي مسألة الخراج أي الضرائب التي تستوفيها الدولة من أصحابها، فدعا إلى اعطاء هذه المسألة من الاهتمام بما يتناسب وشأنها المنسحب على بقية الشؤون والمؤثر عليها، ملفتًا نظر المسؤول إلى مسألة الموازنة بين ما يستجلب من فوائد إلى خزينة الدولة من ضرائب الزراعة ونحوها، وما هو مطلوب من الدولة تحقيقه تجاه متطلبات الناس وإعمار البلاد، فلا يستحوذ جمع الأموال على مسؤوليات الدولة تجاه مواطنيها؛ بل لابّدَّ على المسؤول من ترجيح إعمار البلاد وتحقيق متطلبات العباد على استجلاب المنافع المالية والمردودات الاقتصادية، ومن لم يولِ هذه الأولوية الاهتمام اللائق وشأنها سيكون حتمًا من أسباب خراب البلاد وتعطيل مصالح الناس وتعريضهم للمشقة والعناء، فيكون ذلك مقدمة لزوال ملكه ونهاية سلطانه، ثم بيّن (صلوات الله عليه) دور المسؤول فيما إذا عرض على مصادر الضرائب عوارض من شأنها التأثير على مردوداتها وعطائها، كنقص مياه السقي، وغرق أراضي الزراعة وما شاكلها، بتبني المشكلة والدخول في دائرة حلها بوضع خطط الأزمات وتفعيلها، معطيًا فوائد هذا التدخل على أكثر من صعيد، فالتخفيف عن كواهل أرباب الضرائب بإزالة ما اعتراهم من مشاكل ستعود منفعته مستقبلًا على الدولة واقتصادها، وسيجلب له الإطراء والثناء، ويكون داع لمفخرة المسؤول في اشاعة العدل ضمن نطاق حيز مسؤولياته، وإن بناء الثقة مع أرباب الضرائب ومدِّ يد المساعدة إليهم ما احتاجوا لذلك مع اشعارهم بالرفق، سيجعل منهم ظهيرًا ساندًا للحاكم يعتمد عليه ويثق به، والنتيجة في ذلك تعود إلى ازدهار البلاد واعمارها، أمَّا إذا كان هم المسؤول جمع المال والاستئثار به بلا مراعاة شؤون الأمة، غير متعض بعبر من كانوا قبله، فإنَّه سيكون من أسباب افتقار الناس وبالتالي خراب البلاد، وما أكثر بلاد المسلمين اليوم التي تعاني خرابًا وإهمالًا، ويرزح غالب أهلها تحت وطأة الفقر بل تحت خطه، في المقابل نجد هناك تمددًا فاحشًا في ثراء المسؤول، والقول قوله (عليه السلام): ((ما جاع فقير إلا بما متع به غني والله تعالى سائلهم عن ذلك)).

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2806 Seconds