من ألفاظ التجارة في نهج البلاغة

مقالات وبحوث

من ألفاظ التجارة في نهج البلاغة

3K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 19-10-2021

2 -الأتجار- المعنى المجازي للتجارة
بقلم: د. سحر ناجي

الحمدُّ لله الأول قبل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتماماً لنعمته، واستعصاماً من معصيته، والصَّلاة وأتمُّ التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين.
وبعد:
وردت لفظة (التجارة) في كلام الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة للدلالة على نوعين من أنواع التجارة، وهي: المعنى الحقيقي والمجازي، وقد تناولنا سابقا المعنى الحقيقي، أما المجازي فهو:

لا يُرَاد به التعاملات التجارية في السوق كـ(الرِّبح والخَسارة) ؛ بل المراد بها الرّبح المجازي المتحصل بالثواب، والأعمال الصالحة سواء أكانت الدنيوية منها أم الأخروية. فجاء الفعل الماضي المزيد (تَاجَرَ) على زنة (فَاعَل) متصلاً بواو الجماعة، وتدلُّ صيغته على المتجارة الحادثة والمستمرة للدلالة الفعلية ؛ لأنّ الصيغة الفعلية تدلُّ على الحدوث والتجدد، وقد وردت مرة واحدة في قول الإمام (عليه السلام): « إِذَا أَمْلَقْتُمْ فَتَاجرِوا اللهَ بِالصَّدَقَةِ» [1]. تعدى الفعل (تاجروا) الى لفظ الجلالة من دون واسطة لقصد السرعة والمبادرة في التجارة مع الله. والمراد: تصّدَقوا، فانَّ اللهَ يخلق لكم أضعافاً من ذلك بما يزيل عنكم الإملاق [2]. فالإنسان طوّاع لشهوته فهو عبد الدنيا وتاجر الغرور لامحالة، ولمّا كانت المنايا تطالبه بالرَّحيل عن هذه الدار كان غريما له يقتضيه ما لابد له من أدائه[3]. فتجارتهُ لها غرورٍ، وغفلةٍ عن المكاسب الحقيقية الباقية، واستعارَ لفظ (التَّاجر) بوظيفة بذله لماله وأعماله في شر الدنيا على وهم انها هي المطالب الحقة المربحة[4].

 وجاء اسم المكان على زنة (مَفْعل) مُعَرَّفا بـ (ال)، وهو مَتْجِر وردَ ليدلَ على مكانِ فعلِ التِّجارة: وهو مكانُ لخزنِ البضائعِ، يُقال: أرْضٌ مُتْجَرَة: يتجر منها، وقد وردَ في النَّهْج في أربعة مواضعٍ منها قوله (عليه السلام) في ذكرِ الحَجِ: « يُحْرِزُونَ الاْرْبَاحَ فِي مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ، وَيَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ »[5]، فـ(الأرباحُ) هنا هي الثواب، فقيامهم بالعبادةِ في هذه المواقفِ الشريفةِ تجارةٌ للآخرةِ ولامحالةَ هي مشتملة على المنفعةِ والرِّبح فلا ينبغي أن يفوتَها العاقلُ[6].
 ومنها حديثه عن جَور الزَّمان إذ قسَّمَ الناس على أربعة أصنافٍ ذكر المسيئين منهم قائلاً: «فَالنَّاسُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَاف مِنْهُمْ مَنْ لاَ يَمْنَعُهُ الفَسَادَ في الاْرْضِ إِلاَّ مَهَانَةُ نَفْسِهِ، وَكَلاَلَةُ حَدِّه... وَلَبِئْسَ المَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً، وَمِمَّا لَكَ عِنْدَ اللهِ عِوَضا»[7].
 وقد ذمَّ الإمامُ (عليه السلام) هنا الدُّنيا، وإن كانَتْ مَتجَر خيرٍ فهو يمدحها، كما في قوله في حديثه عن (الدُّنيا) « إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْق لِمَنْ صَدَقَهَا، وَدَارُ عَافِيَة لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنىً لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا، وَدَارُ مَوْعِظَة لِمَنْ اتَّعَظَ بِهَا، مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللهِ، وَمُصَلَّى مَلاَئِكَةِ اللهِ، وَمَهْبِطُ وَحْيِ الله، وَمَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ الله، اكْتَسَبُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ، وَرَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّة»[8].
 ومن مدحِه لها قال الإمام (عليه السَّلام) في وصفِ (المتقين والدُّنيا): « ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ، وَالْمَتْجَرِ الرَّابِحِ» [9].

 وجاءَ الجمعُ من مادة (أتجَرَ) مجموعاً جمع تكسير ؛ ليدلّ على الكَثرة على زنة (فُعَّال) مُنكَّراً مرة واحدة في النَّهْج، وذلك في قوله في خطب الملاحمِ، إذ تحدثَ عن فتنةِ بني أميةٍ قائلاً: « مَا لي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلاَ أَرْوَاح، وَأَرْوَاحاً بِلاَ أَشْبَاح، وَنُسَّاكاً بِلاَ صَلاَح، وَتُجَّاراً بِلاَ أَرْبَاح»[10]. وكلامه (عليه السلام) منفياً هنا بـ(لا) المعترضة ؛ لِيدلَّ على قساوةِ هؤلاء، وخلوهِم من كلِّ خلقٍ يَمُتُّ للإنسانيةِ بشيءٍ. ومنها قوله: (عليه السلام): «إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الاْحْرَارِ» [11]
 فقد قسَّم (عليه السلام) العِباد على ثلاثةِ أقسامٍ، قسمٌ للرَّغبة في الحصولِ على منفعةٍ، وهذه عبادة تشبه حالةُ التَّاجر الذي يبتغي الرِّبح في تجارةٍ، وآخرون يعبدونَ خوفاً، ولو لم يخافوا لَمَا عبدوه، وحالتهم هذهِ كحالةِ العبد الذي يخافُ من سيِّدهِ فيطيعه، أمَّا العبادة الحقيقية فهي العبادةُ المبنية على أنَّ الله (سبحانه وتعالى) يستحقُ العبادةِ سواءٌ أنعمَ أم لم يـُنعِم.

وفي قوله (عليه السلام) في وصفه للمتقين: «صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مَرْبِحَةٌ، يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُم»[12].
وفي إعراب (تجارة) وجهان: الرّفع على أنَّها خبر لمبتدأ محذوفٍ تقديره (تجارتُهم تجارةٌ مربحة)، أو النصب على المصدرية: أي اتجروا تجارةً، والمُربِحة ذاتُ الرّبح[13].ويرجِحُّ البحثُ الوجهُ الأولِ.

 الهوامش:
[1] نهج البلاغة: الحكم القصار: 258، 387
[2] ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: ك 11، 43.
[3] ظ: شرح نهج البلاغة: البحراني: 5 / 5.
[4] ظ: نهج البلاغة: خ 1، 12.
[5] ظ: منهاج البراعة: 2 / 201.
[6] ظ: الديباج الوضي: 1 / 382.
[7] نهج البلاغة: الحكم القصار: 131، 373.
[8] ك 27، 285.
[9] خ 108، 110.
[10] الحكم القصار: 237، 385.
[11] المصدر نفسه.
[12] نهج البلاغة: خ 193، 221.
[13] ظ: الديباج الوضي: 4 / 1579.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3106 Seconds