كاشفية خطاب الإمام علي عليه السلام عن عقائد العرب قبل الإسلام الحلقة التاسعة: تطور فكر الحاجة واثره في تكوين المعتقدات

مقالات وبحوث

كاشفية خطاب الإمام علي عليه السلام عن عقائد العرب قبل الإسلام الحلقة التاسعة: تطور فكر الحاجة واثره في تكوين المعتقدات

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 10-11-2022

بقلم السيد نبيل الحسني الكربلائي

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والصلاة والسلام على ابي القاسم محمد وعلى آله الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم الى قيام يوم الدين.

أما بعد:
يبقى الإنسان وعلى مدى العصور أسير الحاجة، ويبقى ساعياً إلى فك أسره من الحاجة فيكون حراً، لكن هذه الحرية المنشودة اختلفت الرؤى عند الإنسان في الوصول إليها، فمرة من خلال التذلل للسبب الذي أوجد هذه الحاجة، ومرة باسترضاء هذا السبب، ومرة بالتفكر لفهم مناشئ هذا السبب الذي يقف وراء وجود الحاجة، فيسعى في البدء إلى نفي السبب، كي لا يقع أسيراً تحت رحمة الحاجة.

ومن هنا: نشأت رؤى فكرية ومذاهب عقلية اعتمدت آليات عديدة صعبة وشاقة وعسيرة مع النفس لغرض الدخول في فلكها والدوران معها وإن تطلب ذلك الترحل في البلاد كما فعل بوذا (حتى أيقن أن تعذيب النفس والتوبة لا يفضيان إلى الحقيقة)[1].
في حين وجد البعض: إنّ التخلي عن العوالق والروابط -حتى مع أبسط هذه الروابط- كاللباس والشراب والنوم والطعام والمسكن، فكيف بالزوجة والولد، والدخول بذلك في حرب لا هوادة لها مع النفس كي ينتصر على الحاجة ما هي إلا قتل للمشاعر والأحاسيس وتعطيل لدورة الحياة وانقراض للجنس البشري.
وحينما نأتي إلى الحضارات القديمة في وادي الرافدين، أو أرض النيل نجد أن الحاجة دفعت بالإنسان إلى التفكير في بداية الخلق.
لتتطور الفكرة حينما واجه العراقيون الطوفان لتنسج معه ميثولوجيا خاصة؛ أسست لبناء عقائدي جديد؛ حتى إذا بدأت دورة من الحياة الجديدة على الأرض بعد هذه المحنة أظهر الإنسان تطوراً في العبادة (ترتكز على نوعين من العبادة:

1 - عبادة عامة: يقوم الفرد من خلالها - بتحقيق غاية الخلق من وجوده بوساطة كاهن، وتذبح له الذبائح، وتتبعها الصلوات وحرق البخور.
2 - عبادة خاصة: وهي لدفع المكاره من غير وساطة الكاهن كالدعاء وصلاة التوبة والاستغفار)[2].
ثم يتطور فكر الحاجة عند السومريين إلى ثلاث مجالات حياتية:
(1 - الحاجة إلى الأرواح الطيبة لدفع الأرواح الشريرة، وهي العقيدة الإرواحية.
2 - الحاجة إلى الأرض من الظواهر الطبيعية مما جعلها تتخذ لهذه الظواهر الطبيعية آلهة تعبدها وتقدم لها القرابين حتى تسترضيها وتتخلص من الكوارث، فقد جعلت (إله الري) وهو عندهم (رب الفيضانات)، ومن ثم هناك آلهة الشمس، وآلهة القمر، وآلهة الخصب.
3 - الحاجة إلى دوام الحرفة الزراعية والصيد فقد (امتهن السومريون الزراعة والصيد وحياتهم مرتبطة بهاتين الحرفتين، وهم في خوف دائم على حرفهم، فوضعوا آلهة تحمي الزراعة وتدعم مقوماتها وكذلك الصيد، فهم يقدمون القرابين تذرعا من أجل الوفرة في الإنتاج والخصب وتكاثر الحيوان)[3].
ولم يختلف الأمر عند الأكديين عما عليه عند السومريين إلا أن الأمر يتطور عند البابليين، فقد تعددت الآلهة عندهم، وذلك بتنوع الحاجة واتساعها باتساع الحياة وتطور نظرته، لما يدور من حوله، وهو يحاول فهم ما يحيط به، ليتمخض عن ذلك تشريعات جديدة وضعها حمورابي، وفرض على البابليين إتباعها وعاقب عليها.
أما الآشوريون فقد (غيروا بمعتقداتهم لتكون أكثر ملاءمة مع الشؤون الحربية أو الطابع العسكري، وكان الإله آشور هو الإله القومي المدافع عن الآشوريين وإن زوجته عشتار آلهة محاربة تحتل المرتبة الثانية بين الآلهة الآشورية، وعرف من بين الآلهة عند الآشوريين الإله (أدد) و(نامبو) و(مرجال) و(نسكو).
إذاً عبد الآشوريون آلهة متعددة، وأعطوها صفات المقدس الإلهي، وهو شعور شخصية الإله بأنها القوة الخارقة المسيطرة في الكون)[4].
وهذا يدل على أن الحاجة في عهد الآشوريين كانت قد تطورت من الظواهر الطبيعة والحرفية إلى القوة العسكرية، ولذا أوجدوا آلهة لهم تسد الحاجة الجديدة.
ولم يختلف الأمر كثيراً عند المصريين فقد كانت الحاجة وتطور فكر الحاجة هما الأساس في ظهور عبادة الآلهة حسبما تتحكم به الحاجة لدى الإنسان المصري آنذاك.

ولذا (نشأ الاعتقاد بوجود الأرواح في الأشياء، ولهذا تعددت الآلهة، فمنها ما كانت معبودات شريرة سميت بالجن، فكانوا يرهبونها، ومنها كانت آلهة طيبة والتي نالت التقديس والاحترام، والآلهة ذكور وإناث من بينها (إيزيس) واعتبر المصريون القدماء ملوكهم آلهة كذلك)[5].
ولعل المتتبع لهذه الحضارة يغنيه ما ذكرناه من الاختصار والاستشهاد على أن تطور فكر الحاجة لدى الإنسان كان هو الموجد للاعتقاد بتعدد الآلهة، فكان منها علوية مرتبطة بالسماء، كالأفلاك، والكواكب والبروج، والأرواح الطيبة، والبرق والأمطار؛ ومنها سفلية مرتبطة بالعقاب والحساب، ومنها مرتبطة بالقوى الخارقة، الجن والشياطين وأرواح الأموات، ومنها أرضية مرتبطة بالمياه والبراكين، والزلازل، والأشجار والحيوان والزراعة، ومنها ما هو مرتبط بأكثر من آلهة كالأمراض والنيران.
كل ذلك في فكر الحضارات القديمة مرجعه إلى الحاجة وتطور التخلص من قيودها، لينتهي هذا الجدل عند الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام)، فالحاجة من الله وإلى الله تعالى:
{صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل/88].

وقوله تعالى:
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس/31].

ويُظهر النص الوارد عن أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) أن الأصل في تطور فكر الحاجة عند الإنسان هو بحثه عن الله تعالى فيجعل (عليه السلام) من الحاجة منطلقا للإقرار بالتوحيد، فيقول:
«وأَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِه، وعَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِه آثَارُ حِكْمَتِه، واعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِه، مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَه عَلَى مَعْرِفَتِه، فَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ، الَّتِي أَحْدَثَتْهَا آثَارُ صَنْعَتِه وأَعْلَامُ حِكْمَتِه، فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَه ودَلِيلًا عَلَيْه، وإِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً فَحُجَّتُه بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ، ودَلَالَتُه عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ.
 فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ، وتَلَاحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ الْمُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ، لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِه عَلَى مَعْرِفَتِكَ، ولَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَه الْيَقِينُ بِأَنَّه لَا نِدَّ لَكَ، وكَأَنَّه لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤَ التَّابِعِينَ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ، إِذْ يَقُولُونَ {تَالله إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ}.
 كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ، ونَحَلُوكَ حِلْيَةَ الْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهِمْ، وجَزَّءُوكَ تَجْزِئَةَ الْمُجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ، وقَدَّرُوكَ عَلَى الْخِلْقَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْقُوَى بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ، وأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ، والْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِه مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ، ونَطَقَتْ عَنْه شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ، وإِنَّكَ أَنْتَ الله الَّذِي لَمْ تَتَنَاه فِي الْعُقُولِ، فَتَكُونَ فِي مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً، ولَا فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَكُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفا...»[6])[7]

الهوامش:
[1] أسرار الآلهة والديانات، تأليف: أ.س. ميغلو ليفسكي: ص158.
[2] جغرافية المعتقدات: ص148.
[3] جغرافية المعتقدات: ص151.
[4] جغرافية المعتقدات: ص158.
[5] المصدر السابق: ص189.
[6] نهج البلاغة، الخطبة: 91، ص126-127 .
[7] ينظر: أثر الميثولوجيا العالمية في تكوين عقائد العرب قبل الإسلام، السيد نبيل الحسني: ص 132-138اصدار العتبة الحسينية المقدسة – مؤسسة علوم نهج البلاغة/ ط1 دار الوارث- 2022م.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2700 Seconds