بقلم: الدكتور سحر ناجي المشهدي
الحمد لله الأول قبل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..
اما بعد:
تكرر هذا اللفظ في اثنين وعشرين موضعاً من النَّهْج
وجاءت الزَّكاة في النَّهْج لتدُّل على:
1) المعنى الحقيقي: وتعني طَهارةُ النَفسِ وترفُعِها عن فِعْل المُنْكَر، وتربيتها على الأعمال الصالحة، وطاعة الله ومخافته، والأخذ بنواهي الله (سبحانه وتعالى) وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فجاء الفعل المبني للمجهول على زنة (فـُـعِلَ)في بيان صفة المتـَّقين: «إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهْمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي، وَرَبِّي أَعْلَمُ مِنِّي بِنَفْسي! اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ»([1]).
وجاء الفعل المضارع على زنة (يفعل) مسبوقا بـ(لا) النافية، وذلك في: (بيان صفة الكعبة) قائلاً: «ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الاْرْضِ حَجَراً، وَأَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً، وَأَضْيَقِ بُطُونِ الاْوْدِيَةِ قُطْراً، بَيْنَ جِبَال خَشِنَة، وَرِمَال دَمِثَة، وَعُيُون وَشِلَة، وَقُرىً مُنْقَطِعَة، لا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَلاَ حَافِرٌ وَلاَ ظِلْف»([2])، ومعنى لا يزكو: لا يَنْمُو والخُفُّ للجَمَل.
وجاء اسم التفضيل مرة واحدة وذلك في قوله: «يا أيُّها الناس مَتَاع الدُّنيا حِطام..... قلعتها أحظى من طمأنِينتِها وبلغتها أزكى من ثَروَتها»([3])، فنرى تأكيد الإمام (عليه السلام) على تأدية الزَّكاة له من الأهمية ماله؛ لِمَا يتيحه هذا الرُّكن من فرصةٍ لتحقيق التكافل الاجتماعي بين الطبقات، علاوةً على مردوداته المجازية والنفسية، إذ وصفها الإمام (عليه السلام) كفَّارة لمحو السيئات والذنوب وحجاباً عن جهنم، وتحقيقاً لمبدأ التساوي في العَطاء.
2) المعنى المجازي: وهي الفريضة العبادية التي يؤديها أغنياء المسلمين إلى الفقراء، وتعني دفعُ قسطٍ من المَّال ـ إذا بلغ النِصَّاب ـ فريضة من الله كلَّ عام، على سبيل العِبادة، أو هي إعطاء جزء من المَّال إلى مستحقه، وهي اسم مصدر على زنة (فَعَلة) أصلها (الزًكَوَة) لتحرك الواو بعد فتح قلبت الفً ([4]) ء ــَـ ز / زـَـ / كـ ـَـ / وـَـ ة قُلِبَت الواو ألِفا ء ـَـ ز / زـَـ / كـ ـَـَـ ة إعلال بالقلب.
غالبا ما أقترن ذكر الزّكاة بالصَّلاة في القرآن الكريم، وهذا حال مجيئها في كلام الإمام (عليه السلام)، فالصَّلاة من وجهة اجتماعية سلوكية، والزَّكاة من وجهة اقتصادية يشكلان دعامتين أساسيتين في بناء المجتمع([5]).
وتمثل ذلك في قوله (عليه السلام) في بيان أركان الدِّين: «إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ: الاْيمَانُ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَالْجِهادُ فِي سَبِيلِهِ فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ الإسْلاَمِ، وَكَلِمَةُ الإخْلاَصِ فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ، وَإِقَامُ الْصَّلاَةِ فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ»([6]).
وهنا ذكر لثمانية أشياء كلٌّ منها واجب، وخامسها الزَّكاة، فلمَ أخَّرها الإمام عن الصَّلاة؟ أخرَّها؛ لأن الصلاة آكد افتراضاً منها، ولأنها عمود الدِّين تُقام في اليوم خمسَ مرات، ولأن في الصَّلاة شيء من الزَّكاة، إذ يقطع المصلي شيئاً من وقته الذي يمكن أن يستثمره في الاقتصاد الذي تؤخذ منه الزَّكاة... وكتبت هي والصَّلاة بالواو تفخيماً لهما في النطق دلالة على التعظيم، وإنَّما قال في الزَّكاة» فإنَّها فريضة واجبة» لأنَّ الفريضة لقبٌ يطلق على الجزء المُعَّين المُقدَّر في السائمة، باعتبار غير الذي يُطلَق به على صلاة الظُّهر لفظ الفريضة، والاعتبار الأول من القَطع، والثاني من الوجوب، وقال: فإنَّها فريضة واجبة، مثل أن يقولَ: فإنَّها شيءٌ مقتطع من المَّال مَوصوف بالوجوب([7]).
ونجد ما قدمناه أوضح في قوله (عليه السَّلام): «ثُمَّ إِنَّ الزَّكَاةَ جُعِلَتْ مَعَ الصَّلاَةِ قُرْبَاناً لاِهْلِ الاْسْلاَمِ، فَمَنْ أَعْطَاهَا طَيِّبَ النَّفْسِ بِهَا، فإِنَّهَا تُجْعَلُ لَهُ كَفَّارَةً»([8]).
وجاء الفعل الماضي (جعل) مبنيا للمجهول، وأسْنِد الى الضمير المستتر (هي) نائباًً للفاعل ضميرًا مستترًا؛ لِمَا فيها من علمٍ وعدمُ جهلِ أيّ شخصٍ بمشَّرع الزَّكاة، فالحذف للعلم به، وقُرِنت الزَّكاة مع الصَّلاة، والصَّلاة أفضلُ الأعمال الواجبة، وتُعطى بطيب نفسٍ؛ لأنَّها وقاية للإنسان من العذاب الدُّنيوي والآخروي، فتوزع من قبل الأغنياء الى ذوي الحَاجة والمَسْكنة. لذا كانت الزَّكاة «كثرة الطِيبة والطَّهارة، أو كثرة الخير وزيادته يعني كثرة أي شيء يمثل جانب الخير في هذا الكون»([9]) قال تعالى: {جَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}([10]). قال الإمام (عليه السلام): «فَرَضَ اللهُ الاْيمَانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّرْكِ، وَالصَّلاَةَ تَنْزِيهاً عَنِ الْكِبْرِ، وَالزَّكَاةَ تَسْبِيباً لِلرِّزْقِ، وَالصِّيَامَ ابْتِلاَءً لاِخْلاَصِ الْخَلْقِ»([11]).
فـ(تطهيرًا، تنزيهًا، تسبيباً، ابتلاءً) مفعول لأجله، والعامل (فرض) فالمفعول لأجله نكرة تكرر أكثر من مرة، وهي جملة امتدادية، لولا وجود المفعول لأجله لم يكن هنالك فائدة من النَص؛ لأنَّ أغلب الأحكام الواردة يعرفها المسلم أمَّا العلل فهي مجهولة.
وزكاة المَّال تَطْهيرُه، وصلاحه وزكا يزّكَي تزكيةً وزكا الزَّرعُ يَزكُو زَكَاءً: إزداد ونَما، وكلُّ شيءٍ ازداد ونما فهو يزكو زكاءً ([12]).
قال ابن فارس: «الزاء والكاف والحرف المعتل أصل يدلُّ على نماء وزيادة. ويقال الطَّهارة زكاة المال. قال بعضهم: سميت بذلك لأنها مما يرجى به زكاء المال، وهو زيادته ونماؤه. وقال بعضهم: سُمِيت زكاة لأنها طهارة»([13]).
قال تعالى: «{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}([14]). إشارة إلى ما يكون حلالا ويستوخم عقباه، ومنه يقال: الزَّكاة لما يخرجه الانسان من حق الله تعالى للفقراء لما يكون فيه رجاء البركة وتزكية النفس بالخيرات، فتارة تنسب الى العبد وتارة الى الله تعالى([15]).
قال الفيومي: «الزًكاءُ: بالمَّد النًماء والزيادة يقال (زكا) الزًرع والارض (تزكو) (زكوا) من باب قعد و(ازكى) بالألف مثله وسمى القدر المُخرج من المال (زكاة) لأنه سبب يرجى به الزكاء وزكى الرجل ماله بالتشديد (تزكية) «([16]).
وفي الشرع: هي» ايجاب طائفة من المال في مال مخصوص لمالك مخصوص»([17])، والزَيادة والصلاح وتطلق في الشرع على الحصة المُقدرة من المَّال التي فرضها الله للمستحقين.
قال النسفي: «وسُمِيت الزَّكاةُ زكاة لأنَّه يزكو بها المَّال بالبَركة، ويطهر بها المرء بالمغفرة([18]).
وشروطها المعينة في الأخذ (البلوغ، العقل، والحرية)، من الأموال المختلفة في الأنعام والغلات والنقدين، والزكاة على زنة فَعْلة مثل صدقة ولما تحركت الواو وأنفتح ما قبلها قُلِبَت ألفا فصارت زَّكاة. إذ أطلقت في الجاهلية على الزيادة في كل شيء، وبعد مجيء الإسلام اصبحت تطلق على فريضة يخرجها المسلم كل عام اذا بلغ النصاب الشرعي([19]).
يتضح لنا أنَّ الزَّكاة في الأصل بمعنى النُمو الحاصل عن بركة الله تعالى، ويعدُّ ذلك بالأمور الدُّنيوية والآخروية، أما بعد مجيء الإسلام تمثلت بالفريضة العبادية، لذا يقال: زكا الزَرْعُ يَزْكو إذا حصل منه على نموٍ وبركةٍ([20])) ([21]).
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة: خ 193، 221.
([2]) خ 192، 213.
([3]) الحكم القصار: 367، 406.
([4]) ظ: تيسير الإعلال والإبدال: 104 وظ: الكلمات الإسلامية في الحقل القرآني: عبد العال سالم مكرم: 96.
([5]) ظ: التطور الدلالي بين لغة القرآن ولغة الشعر الجاهلي: 213.
([6]) نهج البلاغة: خ 110، 115.
([7]) ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: 7 / 174.
([8]) نهج البلاغة: خ 199، 232.
([9]) فقه الأخلاق: محمد محمد صادق الصدر: (باب الزكاة): 2 / 3.
([10]) النور / 37.
([11]) نهج البلاغة: الحكم القصار: 252، 386.
([12]) ظ: العين (مادة زكا): 2 / 189.
([13]) مقاييس اللغة: 3 / 17.
([14]) الكهف / 19.
([15]) المفردات في غريب القران: 1 / 282، وظ: النهاية في غريب الحديث والأثر في غريب الحديث والأثر: 400.
([16]) المصباح المنير: 254.
([17]) التعريفات: 99.
([18]) ظ: معجم المصطلحات المالية والاقتصادية في لغة الفقهاء: 238.
([19]) ظ: المصدر نفسه.
([20]) التطور الدلالي بين لغة القرآن ولغة الشعر الجاهلي: 211.
([21]) لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 178-184.