العصبية... في رحاب القاصعة (1)

مقالات وبحوث

العصبية... في رحاب القاصعة (1)

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 10-06-2019

خُطَى الخزاعي
(الحمدُ للهِ الذي لبسَ العزَّ والكبرياءَ واختارهما لنفسهِ دون خلقه، وجعلهما حمىً وحرمًا على غيره، واصطفاهما لجلاله، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده، ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليَميزَ المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب، ومحجوبات الغيوب: " إني خالق بشرًا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس" اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه، وتعصَّب عليه لأصله، فعدو الله إمام المتعصبين، وسلف المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداء الجبرية، وادَّرع لباس التعزز، وخلع قناع التذلل ألا ترون كيف صَغَّره الله بتكبره، ووضعه بترفعه، فجعله في الدنيا مدحورًا، وأعد له في الآخرة سعيرًا)([1]).
الابتلاء منهج إلهي حُتِّم على الخلق، إذ به يَمِيز الحق سبحانه وتعالى الطيّب من الخبيث، ويفاضل بين أفراد كل من الطيّب والخبيث على حسب الطبقات والمراتب، فينال كل مكلف استحقاقه على وفق ما قدّم، وقد أشار أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) في خطبته القاصعة التي تقدم بعض منها، إلى السبب الذي حال دون اجتياز إبليس الابتلاء الأول، فأرجعه (صلوات الله وسلامه عليه) إلى فعل الحق (جلَّ وعلا) به، إذ أخرج ما انطوى في ضميره من تَكبُّر وعصبية و(العَصَبِيَّةُ والتَّعَصُّبُ: المُحاماةُ والمُدافعةُ، وتَعَصَّبْنا لَهُ وَمَعَهُ: نَصَرناه، وعَصَبةُ الرَّجُل: قومُه الَّذِينَ يَتَعَصَّبونَ لَهُ)([2])، بابتلاء عرَّى عن تلك الحقيقة المخبوءة؛ بأمره والملائكة بالسجود لآدم الطينيِّ الأصل، فكانت النتيجة أن غلب تأثير تلك الصفات المطوية على ما كان ظاهرًا منه من تعبّد وتذلل، فيفشل في الاختبار، مستكبرًا على الحق، تعصبًا لأصله الناري، وحمّيةً له، بقياس باطل، مدَّعيًا مقام الأفضلية، ليسنَّ بفعله هذا سنَّة العصبية، ويكون إمامًا للمتعصبين، وسلفًا للمستكبرين، خارجًا عن دائرة الرحمة الألهية مطرودًا ذليلًا بتعصبه وحميته، فيصبح ركنًا في ابتلاء الخلق فيما بعد، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إنَّ الملائكة كانوا يحسبون أنَّ إبليس منهم، وكان في علم الله أنه ليس منهم، فاستخرج ما في نفسه بالحمية والغضب وقال: خلقتني من نار وخلقته من طين)([3])، فحذّر أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس من اقتفاء سيرة إبليس، والانتهاء إلى مآله، بالتعرض إلى عدوى التعصب، المعلوم لديهم عاقبتها، فيصدقّوا وعيده، ويحققوا أمانيه، إذ قال (صلوات الله وسلامه عليه): (فاحذروا عباد الله أن يعديكم بدائه، وأن يستفزكم بندائه، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله، فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد، وأغرق لكم بالنزع الشديد، ورماكم من مكان قريب، وقال: "رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين" قذفا بغيب بعيد، ورجما بظن مصيب، صدَّقه به أبناء الحمية، وإخوان العصبية، وفرسان الكبر والجاهلية)([4])، ومن خصوص هذين المقطعين يُفاد، أنَّ ابتلاء الله تعالى للخلق متناسب وما يشق على المبتلى من أمر، وهذا يلائم بدوره عملية فرز الخلق وتصنيفهم على حسب تعاطيهم إزاء ما يشق عليهم فيكون أليق في الجزاء، ويفاد أيضًا أنَّ من يفشل في الابتلاء حرصًا على خصيصة ما، النتيجة أنَّه سَيُسلَبُها، كما سُلبت العِزَّة التي كان يطلبها إبليس بالعصبية، فمُنِي بالذُّل والضعة أثرًا وضعيًّا ليؤم بعد ذلك شر الخلق إلى شر مآل جزاءً أُخرويًّا، ثمَّ يبين (عليه السلام) بعد ذلك سبل الوقاية من داء العصبية الفتاك بالتحلي بما يضادها من خلات، كالتذلل والتواضع الطاردين للتعصُّب والحمية وتجلياتهما من تكبر وتعزز، وجعل من تلك الصفات درع وقاية يحول دون إبليس وجنوده، معزِّزًا (صلوات الله وسلامه عليه) تحذيره بمثال ابن آدم قاتل أخيه للاعتبار والموعظة، فقال (عليه السلام): (فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية وأحقاد الجاهلية، فإنما تلك الحمية تكون في المسلم من خطرات الشيطان ونخواته، ونزغاته ونفثاته، واعتمدوا وضع التذلل على رءوسكم، وإلقاء التعزز تحت أقدامكم، وخلع التكبر من أعناقكم، واتخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوكم إبليس وجنوده، فإن له من كل أمة جنودًا وأعوانًا، ورجلًا وفرسانًا...)([5])، ثم يعود ويؤكد تحذيره (عليه السلام) مبالغًا في النصح والبيان، بسرد الآثار الوضعية المترتبة على هذه الأخلاق الذميمة، التي لم تفتقر إليها أمة من الأمم، فمحصِّلة الحمية والكبر والعصبية أن تؤدي إلى حيث ملتقى العداوات والبغضاء، وإلى التعرض حيث بث الشيطان ونفخه، ليقود هو الآخر من يسلم له زمام نفسه إلى حيث ظلمات الجهالة، ومرديات الضلال، غير متكلف بتوجيهه؛ لأنَّ ما انقيد للشيطان فيه من كِبْرٍ وتَعصُّب كان كفيلًا بسوق ذلك المنقاد إلى ما يريده الشيطان بلا عناء، فقال (صلوات الله وسلامه عليه): (فالله الله في كبر الحمية وفخر الجاهلية، فإنه ملاقح الشنآن، ومنافخ الشيطان التي خدع بها الأمم الماضية، والقرون الخالية، حتى أعنقوا في حنادس جهالته، ومهاوي ضلالته، ذللًا على سياقه، سلسًا في قياده، أمرًا تشابهت القلوب فيه، وتتابعت القرون عليه، وكبرًا تضايقت الصدور به)([6])، ثم يقترب (صلوات الله وسلامه عليه) أكثر في معرض معالجته لهذا الداء، بتشخيص أجلى وسائط الشيطان وشراكه التي يعتمد عليه في الإيقاع بالناس حيث العصبية والحمية، وهم السادة والكبراء وكما قال تعالى: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب :67]، الذين من صفتهم التكبر والترفع، وجحود فضل الله تعالى عليهم ونعمه، ونسبة ما يرونه مستهجنًا مستقبحًا من نَسبٍ إلى الربِّ جلَّ وتعالى، تكبرًا وغرورًا، فإطاعة مثل هؤلاء، ومتابعتهم على ما هم عليه من مساوئ، واقرار ادعائهم الشرف والفضل والتفاخر بالنسب، سيؤول إلى الخسران، لأنَّهم أساس العصبية، وسبل إيقاد الفتنة وتقويه دعائمها، وسيوف بها تُحيى السُنَّة الجاهلية وتقوى، وممَّا جاء في طول الربط بين العصبية والجاهلية عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية)([7])، وكذلك قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من قتل تحت راية عمية تدعو عصبية، أو ينصر عصبية فقتلته جاهلية)([8])، فيمهدون لأسباب زوال النعم منهم، وانزواء الفضل عنهم، فقال (صلوات الله وسلامه عليه): (ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين تكبروا عن حسبهم، وترفعوا فوق نسبهم، وألقوا الهجينة على ربهم، وجاحدوا الله ما صنع بهم، مكابرة لقضائه، ومغالبة لآلائه، فإنهم قواعد أساس العصبية، ودعائم أركان الفتنة، وسيوف اعتزاء الجاهلية، فاتقوا الله ولا تكونوا لنعمه عليكم أضدادًا، ولا لفضله عندكم حسادًا)([9]).
 للكلام بقية، تأتي إن شاء الله تعالى...

الهوامش:
[1] نهج البلاغة، شرح: الشيخ محمد عبده: 2/137-138.
[2] لسان العرب، ابن منظور (ت: 711هـ): 1/606.
[3] وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي، (ت:1104ه): 15/372.
[4] نهج البلاغة، شرح: الشيخ محمد عبده : 2/139.
[5] نهج البلاغة، شرح : الشيخ محمد عبده: 2/141.
[6] المصدر نفسه: 2/ 142.
[7] الكافي، الشيخ الكليني (ت:  328): 2/308.
[8] عمدة عيون صحاح الاخبار في مناقب إمام الأبرار، ابن البطريق (ت:600ه):318 .
[9] نهج البلاغة، شرح: الشيخ محمد عبده: 2/ 142-143.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.6434 Seconds