الأخلاق من نهج البلاغة من هدي أمير المؤمنين عليه السلام أسلوبه في بيان ما خصه الله من الفضل

سلسلة قصار الحكم

الأخلاق من نهج البلاغة من هدي أمير المؤمنين عليه السلام أسلوبه في بيان ما خصه الله من الفضل

3K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 13-08-2022

بقلم: الشيخ محسن علي المعلم

((الحمد لله كما هو أهله، والصلاة والسلام على هداة الخلق إلى الحق، محمد وآله الطاهرين))
وبعد:
وفي كتاب لأمير المؤمنين عليه السلام جوابًا لمعاوية[1] -وصفه السيد الشريف: «وهو من محاسن الكتب»- الإفصاح البليغ والاحتجاج المحكم، ومعالجة خطير القضايا بصراحة وموضوعية نعرض لطرف منها:
فأولًا: «أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَانِي كِتَابُكَ...».
فأمعن النظر في بيانه: «فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا الدَّهْرُ مِنْكَ عَجَبًا إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلَاءِ الله تَعَالَى عِنْدَنَا وَنِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي نَبِيِّنَا».
وتأمّل طويلًا في نعته لمعاوية وتعريفه قدر نفسه:
«وَمَا أَنْتَ وَالْفَاضِلَ وَالمَفْضُولَ وَالسَّائِسَ وَالمَسُوسَ وَمَا لِلطُّلَقَاءِ وَأَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ وَالتَّمْيِيزَ بَيْنَ المُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَتَرْتِيبَ دَرَجَاتِهِمْ وَتَعْرِيفَ طَبَقَاتِهِمْ».
ولك أن تتصوّر ماذا تُحدث وأحدثت هذه المقولة في الموصوف بها، فهل انسل من إهابه، وتذكر حقير ماضيه؟!
وأطلّ أمير المؤمنين عليه السلام وعرّج وأطال الفكرَ لعرضه تاريخ المجد والشرف مصدرًا لها بهذه الديباجة:
«أَ لَا تَرَى غَيْرَ مُخْبِرٍ لَكَ وَلَكِنْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ أُحَدِّثُ».
فعدد جملة من المآثر والمكرمات التي تبوأها سراة قومه استماتة في إقامة الدين والذوذ عن حياضه.

حتى إذا ما وصل إلى دوره المحوري كنّى مشيرًا، و أجمل إجمالًا جميلًا:
«وَلَوْلَا مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ مِنْ تَزْكِيَةِ المَرْءِ نَفْسَهُ لَذَكَرَ ذَاكِرٌ فَضَائِلَ جَمَّةً تَعْرِفُهَا قُلُوبُ المُؤْمِنِينَ وَلَا تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِينَ».
وركّز على مقياس الحقائق وميزان الحقوق سلبًا وإيجابًا:
«فَدَعْ عَنْكَ مَنْ مَالَتْ بِهِ الرَّمِيَّةُ[2] فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا وَالنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا».
ورشح إناء معاوية بما طبع عليه حقدًا وشماتة وتنكّرًا فحسب ظلامته الشنيعة ظلمًا، والإساءة إليه جزاءً لجرم اقترفه، ولكن ابن أبي طالب على هدي من ربه وبينة من دينه، ويقين من أمره، قلب السحر على الساحر فاعتدّ ذلكم الظلم والهضم شهادة على حقّه المستلب ومقامه المضيَّع:
«وقلت: إِنِّي كُنْتُ أُقَادُ كَمَا يُقَادُ الجَمَلُ المَخْشُوشُ حَتَّى أُبَايِعَ، وَلَعَمْرُ اللهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ، وَأَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ، وَمَا عَلَى المُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَةٍ فِي أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا، مَا لَمْ يَكُنْ شَاكًّا فِي دِينِهِ وَلَا مُرْتَابًا بِيَقِينِهِ، وَهَذِهِ حُجَّتِي إِلَى غَيْرِكَ قَصْدُهَا، وَلَكِنِّي أَطْلَقْتُ لَكَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا سَنَحَ مِنْ ذِكْرِهَا».
ثم عرّج على ما ذكره من أمر الإمام عليه السلام وعثمان، فجلّى حقيقتَه، والفتنةَ التي أطاحت به، ودورَه في إطفاء النائرة، ودورَ سواه من المتربّصين.
وعجيبٌ خُلُقُ هذا العظيم وعقل ذلكم الحكيم وهو يخاطب ألدّ أعدائه بتلكم الروح الكريمة والأريحية العظيمة:
«فَلَكَ أَنْ تُجَابَ عَنْ هَذِهِ لِرَحِمِكَ مِنْهُ».
ثم استوفى عرض الأحوال و الأهوال ودوره الإصلاحيّ في تلكم الفتنة والمحنة ببيان واثق، ورأي صادق، وتجرّد فائق.
هذا والإمام عليه السلام يعلم حقيقة خصمه، ويخبر سره، ويدرك خطره:
«وَإِلَّا تَفْعَلْ أُعْلِمْكَ مَا أَغْفَلْتَ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّكَ مُتْرَفٌ قَدْ أَخَذَ الشَّيْطَانُ مِنْكَ مَأْخَذَهُ وَبَلَغَ فِيكَ أَمَلَهُ وَجَرَى مِنْكَ مَجْرَى الرُّوحِ وَالدَّمِ، وَمَتَى كُنْتُمْ يَا مُعَاوِيَةُ سَاسَةَ الرَّعِيَّةِ وَوُلَاةَ أَمْرِ الْأُمَّةِ بِغَيْرِ قَدَمٍ سَابِقٍ وَلَا شَرَفٍ بَاسِقٍ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ لُزُومِ سَوَابِقِ الشَّقَاءِ، وَأُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مُتَمَادِيًا فِي غِرَّةِ الْأُمْنِيِّةِ، مُخْتَلِفَ الْعَلَانِيَةِ وَالسَّرِيرَةِ»[3].
والحق أنها كلمة جامعة مصورة معبرة :
«وَجَرَى مِنْكَ مَجْرَى الرُّوحِ وَالدَّمِ».

قال ابن أبي الحديد:
وأعجب وأطرب ما جاء به الدهر -وإن كانت عجائبه وبدائعه جمة- أن يفضي أمر عليٍّ عليه السلام إلى أن يصير معاوية ندًّا له ونظيرًا مماثلًا، يتعارضان الكتاب والجواب، ويتساويان فيما يواجه به أحدهما صاحبه، ولا يقول له عليٌّ عليه السلام كلمة إلا قال مثلها، وأخشن مسًّا منها، فليت محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم كان شاهد ذلك، ليرى عيانًا لا خبرًا أن الدعوة التي قام بها، وقاسى أعظم المشاق في تحمّلها، وكابد الأهوال في الذبّ عنها، وضرب بالسيوف عليها لتأييد دولتها، وشيّد أركانها، وملأ الآفاق بها- خلصت صفوًا عفوًا لأعدائه الذين كذّبوه لما دعا إليها، وأخرجوه عن أوطانه لما حضّ عليها، وأدموا وجهه، وقتلوا عمّه وأهله، فكأنه كان يسعى لهم ويدأب لراحتهم، كما قال أبو سفيان في أيام عثمان، وقد مرّ بقبر حمزة، وضربه برجله، وقال: يا أبا عمارة! إن الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمسى في يد غلماننا اليوم يتلعبون به! ثم آل الأمر إلى أن يفاخر معاوية عليًّا، كما يتفاخر الأكفاء والنظراء.

إذا عَيَّرَ الطائيَّ بالبُخْلِ مادِرٌ             وقَرَّعَ قسًّا بالفهاهةِ باقلُ
وقال السُّها للشمسِ: أنتِ خَفِيةٌ           وقال الدُّجى: يا صُبْحُ لونُكَ حائِلُ
وفاخرتِ الأرضُ السماءَ سفاهةً         وكاثرت الشهبَ الحصا والجنادِلُ
فيا موتُ زُرْ إِنَّ الحياةَ ذميمةٌ             ويا نَفْسُ جِدِّي إِنَّ دهرَكِ هازِلُ[4])[5]

الهوامش:
[1] نهج البلاغة، الكتاب 28/385-389.
[2] الرمية: الصيد يرميه الصائد، مثل يضرب لمن اعوجّ غرضه فمال عن الاستقامة لطلبه.
[3] نهج البلاغة، الكتاب 10/370.
[4] شرح نهج البلاغة 16/136.
[5] لمزيد من الاطلاع ينظر: الأخلاق من نهج البلاغة: الشيخ محسن علي المعلم، العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، ط1، ص95-98.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2783 Seconds